كلمة
العدد
هل
ستنسحب أمريكا من العراق أو تبقى طويلاً
مُتَغَاضِيَةً
عن الإخفاقات والخسائر ؟
لقد ثبت بدلائل قاطعة ، نشرتها وسائل الإعلام بأنواعها أكثر من مرة ، أنّ بوش كان قد قَرَّرَ غزو كل من أفغانستان والعراق قبل أحداث وتفجيرات 11/سبتمبر 2001م بوقت كاف . وكذلك من القول المعاد المكرور أن نقول : إنّ تفجيرات 9/11 كانت «القاعدة» التي لم يعرفها العالم إلاّ بتشهير أمريكا بها كانت بريئةً منها براءةَ الذئب من دم ابن يعقوب – عليهما السلام – فقد نشرت «Focus News» في إحدى نشراتها تصريحاً لأحد المسؤولين الأمريكيين بأنّه قد تمّ التوصّل إلى دلائل قاطعة أن تفجيرات 9/11 لم يقم بها عرب مسلمون ، وإنما قام بها 200 من رجال الاستخبارات الإسرائيلية . وأكّدت كل من C. N. N. و Arwilizing أن اليهود العاملين في مركز التجارة العالمي المُفَجَّر تلقوا تحذيرًا مؤكدًا قبل البدء في تفجيره بساعتين . وكان قد تم القبض على عدد من رجال الاستخبارات الإسرائيلية ؛ ولكنّ هذه الشواهد كلها تُعُمِّدَ التجاهل بها وغضّ النظر عنها ؛ لأن اللوبي الصهيوني المسيطر على الاقتصاد والتجارة والإعلام هو الذي يتحكّم في دفتي الحكم والإدارة في كل من أمريكا وإسرائيل ، فلا تسير الأمور إلاّ مُوَجَّهَةً من قبله .
وكذلك
يكون من القول المعاد المكرور أن نقول : إنّ مبعث الغزو الأمريكيّ لكل من
أفغانستان والعراق ، كان تحقيق أهداف صليبية صهيونية مشتركة ؛ فكانت الحرب
المفروضة على البلدين صليبية صهيونية بكل الاعتبارات ومن جميع الوجوه وبالشكل
والمعنى معًا . ومن يشكّ في هذه الحقيقة يشكّ في حقيقة كونيّة صارخة ؛ لأن الأهداف
المنشودة والوسائل المُسْتَخْدَمة لتحقيقها ، تصرخ بأن «الحرب
على الإرهاب»
بأسرها صليبية صهيونية ، ناهيك أن الرئيس الأمريكي الابن – متولي كبر مباشرة الحرب
– صَرَّحَ بأن حربه على «محاور
الشر»:
أفغانستان والعراق وغيرهما ، حرب صليبية ، وأن الربّ هو الذي أملاها عليه وأمره
بشنه إيّاها في البلدين وأنه ينتظر الآن أمره بشنه إيّاها في غيرهما لتحقيق العدل
ومحو الظلم !! ولكن شاء الله القدير أن تلقى أمريكا إخفاقات إثر إخفاقات في تحقيق
الأهداف المنشودة من الحرب .
فالأهداف
كان منها :
*
- إحداث تغيير شامل في المنطقة الإسلامية العربية المحدّدة المُطْلَق عليها من قبل
الغرب نفسه مصطلحُ «منطقة الشرق الأوسط»
. وذلك لإرغام العالم العربي على ترك مناصرة الفلسطينيين ، والرضوخ لفكرة قبول
إسرائيل على ماتشاء الصهاينة ، وتصفية الصراع العربي الإسرائيلي في استسلام عربي
كامل أمام إسرائيل المهيبة ومُرَبِّيَاتها ، والقضاء على الأنظمة المعارضة لذلك
كله وإحلال أنظمة أخرى محلّها تتظاهر بإطلاق الحريات الشعبية المزعومة وبتحقيق
رخاء اقتصادي بمساعدة أمريكية ممنوحة مقابل التضحية برأس المال : فلسطين
والفلسطينيين ومصالحهم المصيريّة .
لكن العالم رأى بأمّ عينيه أن أحلام أمريكا
في هذا الشأن قد تبخّرت ، وأنه حدث عكسُ ما تمنّته ، وحصل مالم يكن بحسبانها ؛ حيث
إن الكون لاتديره هي ، وأن السنن الطبيعية لاتتصرف فيها هي كما تزعم عن حماقة شقيت
بها حين كفرت بأنعم الله ورفضت توحيد الله ، وأصرّت على عصيانه ، متحديّةً عظمته
وكبرياءه.
فكثرت
الموانع في طريقها المرسوم ، ومسارها المخطّط ، ولم تجر الرياح بما تشتهيه سفنها .
والمؤشراتُ كلُّها تدلّ أن هدفها الصليبي الصهيوني هذا لن يتحقق في الوقت القياسي
الذي حدّدته . وكان أجلى عناوين الأشواك والمتاريس التي تراكمت في طريقها إلى
تحقيق الهدف انتصارُ «حماس»
بأغلبية ساحقة ، ووصولُها إلى الحكم على كره منها شديد ، وثبات «حماس»
لحدّ اليوم رغم حصارها الشامل لها ومقاطعتها إيّاها اقتصاديًّا ومعنويًّا ،
ومباشرتها لسد الطرق جميعها في وجهها ، حتى تتخلى عن الحكم لصالح «فتح»
العلمانية الموالية منذ اليوم الأول لمصالح أمريكا والغرب أكثر من مصالح
الفلسطينيين .
*
- وكان هدفها الثاني – الذي كان فرعًا للهدف الأول – تسهيلُ هيمنة إسرائيل على
العالم العربي كلّه . وذلك بسلوك طرق مباشرة ظنتها – أمريكا – مُعَبَّدَة بالكامل
، ومُمَهَّدَة كل التمهيد . منها إعمال تغيير المناهج التعليمية ، والأنظمة
التربوية ، والمفاهيم الثقافيّة ؛ وتفريغُها من كل مضمون يدعو لكراهية إسرائيل
وبالتالي لمناهضتها ؛ وإغراقُ العالم العربي بمنظومة إعلامية إذاعية تلفزيونية ،
تباشر بشكل مثمر الغروَ الفكريَّ وغسيلَ مخّ الشباب العربي ، وتتغنّى بفضيلة
الاستسلام لإسرائيل وبمكاسب الرضوخ لها . هذا في جانب . وفي جانب آخر تُشَكِّلُ
منافسًا للنظم الإعلامية المعادية لأمريكا وإسرائيل .
وذلك
أمر نجحت فيه – كما يرى عدد من المحللين والمراقبين – أمريكا بشكل جزئيّ ، يكاد
لايسمن ولايغني من جوع ؛ لكنها تنوي مواصلة هذه الحرب الفكرية الشاملة ،
مُتَوَقِّعَةً تحقيق انتصارات باهرة في المستقبل ، مُعْتَقِدَةً أنّ الأمة
الإسلامية العربيّة صعبٌ تجريدُها من ثقافتها وتقاليدها
بالسهولة وفي الوقت القليل ؛ بل يحتاج ذلك إلى اعتماد الصبر وإنفاق قدر مطلوب من
الوقت ، حتى تتحقق النتائج على المستوى المرجوّ.
أنشأت
أمريكا بنفقات باهظة محطات إذاعية وتلفزيونية تبثّ كل آن السمومَ ، وتدمِّر
الأخلاق والقيم الإسلامية العربية ، وتهيئ ذهن الشباب للرضوخ لإملاءات أمريكا
وإسرائيل ، وللارتياح للتخلّي عن الحقوق العربية التي صمدت من أجل استعادتها
الأجيالُ الغيورةُ على دينها وعقيدتها ؛ حيث ترى – أمريكا – أن صورتها تشوّهت في
ذهن الإنسان العربي من سوء فهمه وخطأ تفكيره نحونا نحن المتنوّرين المتحضرين . ولم
تدرِ – أمريكا – جوهرَ الحقيقة: أن كراهية العرب والمسلمين لها لاترجع إلى سوء
الفهم ، وإنما ترجع أولاً وأخيرًا إلى تعاملها معهم بالظلم واللاعدل والكيل بغير
الذي تكيل به لإسرائيل ولغيرهم من أبناء الديانات الأخرى التي تتفاهم معها في
توزيع «المنافع
والأرباح»
وتقاسم «الحقوق
والواجبات»
ولكن الإسلام الواثق بنفسه ، الشامخ مستقلاًّ لايرضى بهذا التفاهم معها بشكل أو بآخر
؛ من هنا ترى هي – أمريكا – وغيرها من ذوات الديانات الباطلة أن الإسلام هو العدو
اللدود المارد الذي يبدو لا يُقْهَر ولا يُغَالَب ، ولا يقبل تراجعًا ولاتفاوضًا ،
ولايعرف بشأن التنازل عن أي من حقوقه إلاّ اللاءات المتصلةَ التي لاتكاد تعرف
النهاية ؛ ولكنها – أمريكا – بدلاً من أن تتلقى الدرس الإيجابي ، وتصحِّح سمعتها
لدى المسلمين والعرب ، بالرجوع إلى تبنّي العدل ، والتخلّى عن إعمال لغة القوة
والاحتلال ، والضرب والحرب ، ودوس القيم الإسلامية ، إلى إعمال لغة التفاهم
والتسالم ، والاحترام المتبادل ، تصرّ على التمسّك باستخدام القوة ، وممارسة الظلم
، واحتلال الأراضي الإسلامية ، وإذلال الإنسان المسلم ، واغتصاب الحرمات العربية
والإسلامية . وفي الوقت نفسه تتساءل متجاهلةً : لماذا تكرهنا المجتمعات الإسلامية
، ويثور ضدنا الشباب العربي المسلم ، ويكاد ينقضّ علينا في طول الدنيا وعرضها .
وتتوصّل في حساب خاطئ تمامًا أن السبب في سخطه عليها وثورته ضدها إنما هو سوء
الفهم وخطأ التقدير، فلابدّ من تصحيح الصورة وتبييض السمعة ، بتسخير وسائل
الإعلام، وإنشاء المحطات الإذاعيّة والتلفزيونية التي تسهر على بث البرامج المخلة
بالأخلاق والقيم ، التي هي صورة عن حضارتها المتقدمة والتي هي قادرة على النحت من
الإنسان الشرقي الخام البدوي إنسانًا متحضًرا مثل الإنسان الغربي الأمريكي !!.
*
- زرع نظام ديموقراطيّ غربي أمريكي في العراق ، يُمَثِّل مثلاً أعلى لأسلوب الحكم
وممارسة السلطة ، وستتحلّب له أفواه الشعوب المجاورة إعجابًا وتقديرًا ، وستتطلع
إليه مُتَلَمِّظَةً له شفاهُها ، وستسعى للتوصّل إلى مثله في بلادها، طالبةً
لتحقيقه العونَ والتدخّلَ منّا نحن الأمريكان الذين هم مُطَالَبُون من قبل الربّ –
كما يتفوّه بذلك من حين لآخر بوش الابن – بإقامة الديموقراطية الغربية الأمريكية
في كل دولة تتسمّى بإسلامية أو عربية !.
وذلك
ما فشلت فيه أمريكا فشلاً ذريعًا ؛ فرغم إقامتها هيكلاً منهارًا مهزوزًا منذ
البداية من الحكم الذي يتولاّه عملاؤها من الشيعة وأذيالهم من السنّة الذين باعوا
دينهم وعرضهم بثمن بخس دراهم معدودة ؛ حيث توصّلوا إلى كراسيهم المكسورة القوائم ،
بدلالتهم على أمكنة تواجد رموز المقاومة الباسلة الذين أكّدوا لأمريكا أن الشعب
العراقي قوة لاتُقْهَر بالنار والحديد؛ لأنه يعرف من أين تؤكل الكتف ، ويعرف الحرب
والضرب منذ التأريخ القديم ، وأكثر من ذلك يعرف معنى الصمود والمواجهة والثبات ،
مهما اشتدت الأحوال وتفاقمت الأهوال .. رغم ذلك صار العراق اليوم تحت الاحتلال
الأمريكي صورة بشعة غير مسبوقة للخراب والدمار واللا استقرار ، والقتل والفتك ،
والنهب والسلب ، والاغتصاب وهتك الحرمات، والاغتيال والتفجير ، والجوع والعطش
،وفقدان وسائل الحياة بأنواعها ، وممارسة الظلم والوحشية التي تقوم بها القوات
الأمريكية البريطانية المحتلة التي جاءت تنشر العدل ، وتروّج الفضل ، وتقيم
الديموقراطية ، التي عاد الشعب العراقي – والشعوب العربية المسلمة كلها التي شاهدت
نتائجها المرة في العراق – يخاف شبحها مخافة الأطفال للسعالي والأغوال ، وبدأ يقول
ويعتقد أن حجيم النظام الصدّامي الاستبدادي – الذي شنّعت عليه أمريكا كثيرًا
وشَهَّرت به طويلاً مُوْجِدَةً مبررًا غَير شرعيّ لغزوه للعراق – كان أنعم بكثير
من جنّة الديموقراطية الأمريكية التي هذه بداياتُها فكيف بنهايتها ؟!.
ولكي
تعرف بشاعة وجه الديموقراطية الأمريكية المزمع إقامتُها في العراق – أو المُنفَّذ
حاليًّا تحت الرعاية الأمريكية – أن واحدًا من أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطي
الأمريكي «جون
مورتا»
John Murtha وأحد قدامى المحاربين في «فيتنام»
وأحد المؤيدين المتحمسين لبوش في شنه الحربَ الظالمةَ على العراق وأحد المعارضين
الأشداء للتواجد العسكري الأمريكي في العراق بعدما عرف كذب بوش وخداعه للعالم
والأمريكان والخسائر التي ذاقتها أمريكا مع العراقيين في الأرواح والوسائل
والممتلكات . . جمع إحصائيات خطيرة تشف عن بعض معاناة العراقيين التي تعرّي بوش
مرة أخرى كآلاف المرات السابقة واللاحقة في أساليبه الخداعيّة التي لازال يمارسها
دونما استحياء . يقول «جون
مورتا»
في إحصائيته :
«يفتقر
العراقيّون اليوم إلى الكهرباء ؛ فهم لايحصلون إلاّ على عشر ساعات يوميًّا تقريبًا
من التغذية الكهربائية عبر الشبكة الحكومية ؛ وإن 30٪
من الشعب العراقي فقط يحصل على مياه صالحة للشرب؛ وإن إنتاج العراق النفطي تراجع
عن مستويات ماقبل الاحتلال ، فيما ارتفعت إنتاجية باقي الدول الأخرى ؛ وإن نسبة
البطالة بين الشباب العراقي تصل في بعض المناطق إلى 90٪
، بينما هي في أفضل الإحصائيات حوالي 55٪
بشكل عامّ على المستوى العراقي . وإن المزيد من الشباب العراقي بدأ في الانخراط في
المليشيات الطائفية المتناحرة . وقدرُ عددهم الإجمالي 25000 تقريبًا ، جلُّهم من
المُسَرَّحِين من الجيش العراقي السابق الذي حلّته إمريكا إثر احتلالها العراق ؛
وإن 60٪
من العراقيين يعتقدون أن الخطوة الأولى في طريق تحسين الحياة هي رحيل قوات
الاحتلال الأمريكي البريطاني عن آجرها من العراق».
على
أنّ عمليّة تحقيق أمريكا ديموقراطيتها في العراق حطّمت الشَيء الكثير من أعصابها ؛
حيث إنها لاقت المصاعب والمتاعب التي ربما لم تكن بحسبانها في سبيل التوصّل إلى
حلفاء ومأجورين يتولَّون عنها القيادة والحكم في العراق، ولا يكونون خَوَنَة فيما
يتعلق بمصالحها ومصالح إسرائيل ، ويقدرون على تنحية القوى السنية عن مواقع القيادة
والمسؤولية . وذلك علمًا منها – أمريكا – أنهم أصلب عودًا في عدم الخضوع لأي تخويف
أو ترغيب أمريكي يُصْدَرُ للخيانة بمصالح الشعب العراقي فضلاً عن مصالح الأمة
الإسلاميّة ، وانتقامًا منهم لأنهم الشريحة التي ينتمي إليها الرئيس العراقي
المخلوع البعثيّ صدام حسين . ورغم تكوين برلمان مزعوم وتعيين وزراء ورئيس وزراء ،
لم تتيسر لأمريكا فرصة ترتاح فيها إلى صيغة لإدارة السلطة في العراق على ما تهواه
. والفشل الذريع في هذا الجانب هو الآخر جعل أمريكا تتخبط في العراق خبط عشواء ،
وتنتقم من العراقيين بالقصف العشوائي، والتقتيل الجماعي ؛ فقـد تستهدف قرية
بكاملها أوبلدة بمن فيها وتمطرها بالصواريخ والقنابل ، وتسوّيها بالأرض ، وتبيد كل
من فيها من نسمة بشريّة . ولاسيّما إذا كان أهلها سنّة ، ولم يكن شيعة يسهل عليها
شراء ذممهم بأي ثمن تافه.
*
- أمطرت أمريكا العراقَ بالحديد والنار، ودَمَّرته عن آخره بحجج رئيسة عديدة ، كان
من بينها أنه ينتج أسلحة ذات دمار شامل ، وأنه اليوم بؤرة الإرهاب الذي تتولاه «القاعدة»
المزعومة ؛ فإذا تمكنت من تحطيم الإرهاب فيه ، تحطّم على المستوى العالمي ، وأمنت
هي وأمنت دول العالم !!.
ولكن
كذبتها هي تعرّت بشكل فاضح ؛ فلم تجد في العراق ولاعصا «دمار
شامل».
وأمّا مشكلة الإرهاب فإنّها شبت بشكل كاد يبتلع العالم ويحرق أمريكا التي صارت
اليوم مُحَاصَرة بالخوف واللا أمن والتهديدات المتنوعة على قدر ما مارسته من الشر
والخبث ، والإفساد والظلم ، وتقتيل الأبرياء في العالم ، ولاسيّما في العالمين العربي
والإسلامي ، اللذين جعلتهما عدوين لدودين متعطشين لدمائها تعطّشًا قد لا يتروّى
إلاّ بمثل الدماء التي أراقتها هي في كل من أفغانستان والعراق والمناطق الأخرى من
العالم .
إنّ
العراق تَحَوَّلَ اليوم نقطة جذب رئيسة لكل من يحاول أن يتعلم فنَّ الانتقام من
أمريكا الصليبية المتصهينة والقوى الصهيونية التي حرَّضت أمريكا على شن الحرب على
الإسلام والمسلمين باسم «الحرب
على الإرهاب».
وقد علم العالم أن القاعدة – التي لم يكن لها أي وجود في العراق فيما قبل حرب
أمريكا له – قد رسخت اليوم فيه أقدامُها باعتراف الأمريكان أنفسهم ، الذين
يقدِّرون أن عدد أعضائها فيه اليوم أكثر من ألف مقاتل بارع من شتى الدول ، بجانب
المقاومة العراقية الداخلية التي تجاوز أعضاؤها ثلاثين ألفًا ، يستعدّون كل وقت
للتفدية والتضحية بالأرواح في سبيل تحرير العراق من الأمريكان وعملائهم العراقيين
. وقد أكّد المحللون أن تشاغل أمريكا في العراق أتاح للقاعدة والمنظمات المتعاونة
معها فرصة لالتقاط الأنفاس ورصّ الصفّ وإعادة الترتيبات لشن هجوم مثمر على قوات
التحالف في أفغانستان والمناطق الملاصقة لها من باكستان ؛ وأنها – أمريكا –
تَلَهَّتْ عن مطاردة البطل الحقيقي لـ «الإرهاب»
: أسامة بن لادن .
أمريكا
اليوم تورَّطت بين فكي أفغانستان والعراق وخلقت أعداء أكثر مما نهضت تطارده بحجة
هجومهم على مركز التجارة العالمي بـ«نيويورك»
يوم 11/سبتمبر 2001م . وإذا كانت تتصور ذاك اليوم أن الأعداء هم أعضاء القاعدة
فإنها اليوم أمام أعداء يحاصرونها في كل مكان في معظم أقطار الدنيا ينتمون إلى
مجموعة الشباب المسلم من كل لون وجنس الذي يرى في أمريكا عدوّاً مكشرًا أنيابه
لابتلاع الإسلام وحضارته، والعـروبة وثقافتها، والدين ومقوماته.
ولم
يكن فوز «حماس»
في فلسطين إلاّ تعبيرًا عن الكبرياء العربي الإسلامي الجريح ، وعن الغيرة
الإسلاميّة التي ثارت لدى الشعب العربي الفلسطيني تجاه التصرف الأمريكي المزدوج .
وإذا وضعتَ في الاعتبار أن أمريكا تعتبر «حماس»
حركة إرهابية رقم واحد ، فإنك ستعلم مدى الإيلام الذي أصاب أمريكا بفوز حماس ،
ومدى إيذاء الصفعة التي وقعت بذلك على خديّها .
يصحّ
أن يقال : إن أمريكا راحت تدوس النمل فولدت بذلك عقارب تلسع ، وأفاعي تلدغ ،
وثعبانًا تَقْعَصُ كلَّ أمريكي تصيبه بسمّها يقظة أو منامًا .
*
- بحثًا عن الأمن الذي فقدته أمريكا يومَ 11/ سبتمبر 2001م شنّت الحرب الاستباقية
على ما أسمته بالإرهاب ، ثم سمّته بالإرهاب الإسلامي ، وبدأت بأفغانستان باعتبارها
منتجة له ومصدرة إياه!، وثنّت بالعراق باعتباره ذا علاقة برموز القاعدة والإرهاب!.
وقالت : إنّها مهدَّدة في عقر دارها ، فلابدّ أن تبادر إلى استئصال أوكار الإرهاب
في كلّ من دول العالم الإسلامي!. فهل أمنت بعد هذه الفترة الطويلة التي أنفقتها في
الحرب ، وبعد هذه الخسائر الفادحة التي لحقتها من أجلها في كل من الاقتصاد والجيش
والمعدّات.
فأما
الخسائر الاقتصادية ، فقد أفادت التقارير أن تكاليف القوات الأمريكية في العراق
وحده – فضلاً عن تكاليفها في أفغانستان – بلغت حتى كانون الأول 2005م (251) مليار
دولار، وزادت الكلفة الشهرية لنفقات الحرب في العراق على حوالي 6 مليارات دولار،
واضطرت الإدارة الأمريكية إلى طلب ميزانيات إضافية من الكونجرس لتغطية النفقات
المتزايدة . وهذه التكاليف تزيد عن المتوسط الشهري للتكاليف العسكرية في «فيتنام»
حسبما أكّد كل من «معهد دراسات السياسة»
و «مركز
السياسة الخارجية» – وهما منظمتان
ليبراليتان مناوئتان للحرب – اللذين أصدرا تقريرًا بهذا الشأن بعنوان «المستنقع
العراقي».
وعلى ذلك بلغت الكلفة اليوميّة للحرب 186 مليون دولار . وأقر الكونجرس الأمريكي 4
مشاريع قوانين للإنفاق في العراق حتى الآن باعتمادات تصل إلى 204,4 مليار دولار .
ومن المُتَوَقَّع أن يقر في وقت قريب مبلغ 45,3 مليار دولار. وقال التقرير: إذا ما
تمّ تقسيم هذا المبلغ على سكّان الولايات المتحدة تبلغ التكلفة حتى الآن 727
دولارًا للفرد . مما يجعل حرب العراق – لايزال التعليق جزءًا من التقرير – أكثر
الجهود العسكريّة تكلفة خلال الـ 60 عامًا الماضية . وكانت التكلفة الكلية لحرب «فيتنام»
بأسعار اليوم 600 مليار دولار.
أمّا
الورقة التي أعدّتها بهذا الشأن كل من خبيرة الميزانيات في جامعة «هارفارد»
(ليندا بيلمز) والاقتصادي الفائز بجائزة «نوبل»
من جامعة «كولومبيا»
(جوزف ستايلتز) فهي تشير إلى أن تكاليف الحرب الحقيقية ستصل إلى تريليوني دولار،
وليس 173 بليونًا كما تدّعي إدارة بوش. وقد فَنَّدا تفاصيل ذلك في تقريرهما الذي
أثار ضجّة كبيرة عند تداوله في مطلع هذا العام. هذا إضافة إلى ما ينشر في الصحف
الأمريكية تباعًا من أخبار فضائح الاختلاس وإهدار المال وتسهيل استيلاء الشركات
المتعاقدة مع البنتاغون عليه بالتزوير والإهمال . مما جعل الأوساط الاقتصادية
الأمريكية تدرك أن فساد الذمة الماليّة في هذه الإدارة وصل إلى مستويات غير
مسبوقة.
وأمّا
الخسائر العسكرية ، فقد بلغ عدد القتلى من الجيش الأمريكي حتى الآن (2400)، وبلغ
عدد الجرحى حوالي (18000) وأكثر من نصف هؤلاء حسب تقارير وزارة الدفاع الأمريكية
(البنتاغون) لايستطيعون العودة إلى الجيش بعد معالجتهم . وإن هناك تقارير أمريكية
غير رسمية تفيد بأن عدد الجرحى أكثر بالتأكيد من العدد المُعْلَن عنه رسميًّا وأنه
قد يتجاوز الخمسين ألفًا (50000) .
وتقدر
التقارير الأمريكية الأخيرة أنّ حوالي (8000) من أفراد الجيش الأمريكي قد هربوا من
الجيش وأداء الخدمة العسكرية ، وأن حوالي النصف منهم قد هربوا إلى كندا ، وطلبوا
اللجوء السياسي . إلى جانب زيادة حالات الأمراض العصبية وحالات الانتحار لدى
القوات الأمريكية في العراق ، كما أشارت إلى ذلك التقارير ، وإلى جانب الصعوبات
المتزايدة في تحديد مدة التطوع وتجنيد متطوعين جدد ؛ حيث يواجه الجيش الأمريكي
نقصًا في عدد المتطوعين المطلوبين ، رغم تسهيل الشروط المطلوبة في المتطوعين ورغم
تمديد سنّ التطوع .
وتشير
إحصائيات (البنتاغون) إلى أن حالات الطلاق بين منسوبي القوات العاملة في الخارج
ولاسيّما في العراق وأفغانستان تزايدت بشكل غير مسبوق في عامي 2004 – 2005م إذ
بلغت في 2004م (10477) حالة وفي عام 2005م (8376) حالة . مما جعل وزارة الدفاع
تخصّص 3,5 مليون دولار للإنفاق على برنامجين للحفاظ على تماسك أسر العسكريين من
الانهيار. ناهيك عن الـ (16000) مصاب الذين فقدوا معظم أطرافهم في حرب لم تكن
أمريكا مضطرة لخوضها بل اختارت الإدارة شنّها استنادًا إلى ذرائع زائفة تمامًا .
وذلك
إضافةً إلى حالات الهزيمة النفسية المتزايدة بين المجندين الأمريكيين . وقد كان
الأمريكان المسؤولون يظنون أن جيشهم يقوم بنزهة في بلدان العالم الثالث ولاسيما
دول العالم الإسلامي، وأن الأمر لايعدو كونه تمرينًا طالما تمرّسوا عليه، وأن
التكنولوجيا والقوة البريّة والبحريّة والجويّة إلى جانبهم ؛ فلا داعي للمخافة ولا
مبرر للذعر ولامبعث على تصوّر مسبق للخسائر ، وإذ بهم يتفاجأون بأنّ إنسانًا
عاديًّا لايرتدي سوى ثوب ممزق ، ويحمل كلاشنكوف لايتعدّى ثمنه 10 دولارات قادر على
قتل عدد من الجنود الأمريكيين ، وكان قد كلّف كل واحد منهم نحو 30 ألف دولار في كل
من التجهيز والتسليح والتدريب والحماية . مما أدّى إلى تفشّي الهزيمة النفسية
لديهم . وتلك هي إحدى المشاكل المعقدة المقلقة التي تصيب الجيش الأمريكي . وقد
سمّت وزارة الدفاع (البنتاغون) هذه الحالة بـ«مرض
اضطرابات ما بعد صدمة الضغوط».
ومما
يزيد الجيش الأمريكي العامل في العراق يأسًا وإحباطاً ، عدم إيمانه بعدالة القضية
.. الاعتقاد الذي قد رسخ لديه أخيرًا رسوخًا لن يقبل استئصالاً ؛ حيث يرى كثير من
الجنود أنهم دُفِعُوا إلى حرب ظالمة غير عادلة ؛ ولذلك ما إن انتهى عقدهم حتى
رفضوا العودة للخدمة من جديد ، رغم جميع الإغراءات الماديّة الباهظة . وأكّدت
التقارير أن 30٪
من الجنود الجدد يتركون الخدمة خلال ستة شهور فقط .
ويؤكّد
الطب النفسيّ في تقاريره أن الفضائح الأخلاقية والقانونية والاعتداءات الوحشية
والتعذيبات الجسدية التي تتناول بها الجنود الأمريكيون العراقيين في السجون
والمعتقلات ترجع أصلاً إلى الحالة النفسية المردية التي تعانيها هي من شدّة الضغط
النفسي والشعور الزائد باللاهدف الذي تُدَفْع هي إليه دفعًا وتُرْغَم للتوصّل إليه
على كره منها . كما أن كثيرًا من هذه الفضائح اُرْتُكِبت بتعمد وتخطيط من
المسؤولين رفيعي المستوى ، كما أكدت الجهات والأفراد الذين عبروا محيطَ التحقيقات
الطويلة بهذا الشأن.
والذعر
النفسي الدافع للهروب من الخدمة لم يَتَفَشَّ بين الجنود الأمريكان وحدهم ، بل أخذ
بتلابيب الجنود البريطانيين أيضًا ؛ فقد أكدت هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية
فرار أكثر من ألف عسكري بريطاني منذ بدء الحرب على العراق . ومن بينهم 377 جنديًّا
فروا من الخدمة خلال عام 2005م ومازالوا متغيبين بينما تغيب منذ مطلع 2006م حتى
الآن 189 جنديًّا . وقتل من الجيش البريطاني منذ بدء الحرب 111 جنديًّا من أصل
7200 جندي منشورين في العراق يَتَمَرْكَزُون أصلاً في البصرة .
أمّا
الخسائر في المُعَدَّات الحربية ، فقد بلغت حدًّا هائلاً . فقدت (60) طائرة
هيلوكوبتر من أنواع مختلفة ، إلى جانب عدد غير قليل من طائرات استطلاع أسقطتها
المقاومة العراقية . وأكثر من (1000) آليّة بأنواعها ، وعربات مصفحة ، وسيارات شحن
، وغيرها دمّرتها المقاومة العراقية . وهذا ما اعترفت به «البنتاغون»
أما التقارير غير الرسميّة ، فإنّها تشير إلى عدد أكبر من هذا العدد في كل نوع من
أنواع المعدات والأسلحة .
هذا
إلى جانب ما فقدته أمريكا من ذهاب ريحها ،وضياع اعتبارها ، وماء وجهها – إن كان في
وجهها ماء – حيث أثار ما مارسته قواتها من الإذلال والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية
مع السجناء العراقيين في سجون أبي غريب والسجون السريّة خارج الولايات المتحدة و«جوانتانامو»
استياءً عالميًّا ضد أمريكا واستياءً لدى القطاع العريض من الأمريكيين ذوي الضمائر
الحيّة . وهو أمر جعل سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان سجلاًّ منافسًا
لسجلات أسوأ الدكتاتوريّات في العالم ، حتى ما وَسِعَ الرئيسَ الأمريكي السابق «جيمي
كارتر»
إلاّ أن فضح هذه التجاوزات الأمريكية في مقال بعنوان «ليست
هذه أمريكا التي أعرفها»
.
وها
هي ذه استطلاعات الرأي العام في أمريكا تشير باستمرار إلى تدهور شعبية «بوش»
الابن وحزبه . حتى عادت بعض الصحف والمجلات الأمريكية والبريطانية تتساءل : هل
بدأت أمريكا «مرحلة
الأفول»
كقوة عظمى . وتقول مجلة «الإيكونوميست»
في مقال تحت عنوان «محور الضعفاء»
: إن الإخفاق في العراق والمشاكل الداخلية في أمريكا وبريطانيا حوّلت بوش وتوني
بلير من صقرين محلِّقَين إلى بطتين عرجاوين .
وتراجعت شعبية بوش إلى 31٪ بينما كانت لدى
احتلال بغداد 80٪ ويقول المحللون : إن مفهوم «القوة التي لاتُقْهَرُ» لم يعد قائمًا ، وإن أمريكا تشعر بحق اليوم أن العالم أصبح
حروناً ولم يعد يستجيب لرغباتها ، وأن قدرتها على تشكيل العالم حسب هواها مجرد
وهم.
على
كل فأمريكا اليوم بعد كل هذه الخسائر التي لحقتها – وما سيلحقها منها لن يقل عنها
– لم تحقق أمنًا لنفسها فضلاً عن غيرها . إنّها جعلت العالم كلَّه محورًا للأخطار
ومجالاً للصراعات ، ومكانًا للمخاوف التي لايدري مداها إلاّ الله ، و وَرَّطَت
العالم على الرغم منه في معركة كانت هي وهو في غنى عنها ؛ ولكنها تلاعبت بالتهويل
، ولَوَّحَت بالتخويف ، وكبّرت الأخطار الوهميّة ، وخلقت المبررات لخوض حرب ضدّ
عدوّ غير مرئي ، ولتحقيق هدف غير واضح، وبوسائل جهنميّة، ونفقات
باهظة كَلَّفت الخزانة الحكومية وجيوبَ الشعب الأمريكيّ الكثيرَ الكثيرَ الذي لو
وُفِّر لساعدها على تحقيق تقدّم أكثر ، وإنجازِ خير أكبر، وتوفير أمن أوسع ،
وصناعة رخاء أشمل ، وكسب صداقة أمتن مع العالمين الإسلامي والعربيّ ، وإيجاد فرص
أكثر لإقامة علاقات أوثق تجاريّة واقتصاديّة مع الدول المالكة لموارد النفط
والثروات الطبيعيّة ، ولتحويل معظم أعدائها أصدقاء ، في إطار الأهداف المشتركة ،
والقضايا الثنائيّة .
إنّ
أمريكا وعملاءها في العراق من المعتلين كراسيَّ الحكم المتكسرة منذ اليوم الأول
والمنتمين إلى قطاع الشيعة يرقصون اليوم بمقتل أبي مصعب الزرقاوي يوم 7/ يونيو
2006م (الأربعاء : 10/ جمادى الأولى 1427هـ) كأنهم حقّقوا الانتصار النهائي ،
وصَفَّوْا المقاومة، واستأصلوا كل جذر من جذور المعارضة ، وكسبوا العراق كلَّه
لصالحهم . مثلما رقصوا لدى سقوط بغداد ؛ حيث بالوا على تمثال صدام حسين
وعلّقواعليه الأحذيةَ ، وكأنهم دخلوا الجنّةَ ونعموا بنعيمها ؛ ولكن سرعان ما
اكتشفوا أنهم استسمنوا ذا ورم ، ونفخوا في غير ضرم ، وأنهم حسبوا السراب ماءً .
وكذلك
في قضية الزرقاوي علموا عاجلاً أن المقاومة لم تضعف ، وأن الشعب العراقي الغيور لن
يرضى بأقل من تحرير العراق كله وطرد الكلاب الأمريكية من دياره عن آخرها، وأن
مصيبة أمريكا لا تنحصر في فرد أو جماعة وإنما المصيبة كامنة في الشعب العراقي جلّه
إن لم تكن في كله ، فهل تبيده أمريكا بأسره ؟ شيء لاتقدر عليه بقوة الحديد والنار
، كما لم تقدر عليه أيُّ قوة غاشمة في التأريخ البشري .
هذه
الخسائر وغيرها ، الماديّة والمعنوية ، الموقتة والدائمة ، هل كانت أمريكا تحتسبها
كقوة متقدمة لا تخطو خطوة إلاّ عن تخطيط مسبق ، أم كانت لاتحتسبها ، وإنما كانت
تحتسب أنها مقبلة على رحلة نزهة ؟ في كلتا الحالتين تُعَدُّ سفيهةً ولاتُعَدُّ
حازمةً ؛ فهي كما قال الشاعر :
فَإِنْ كُنْتَ لاَتَدْرِي فَتِلْكَ
مُصِيْبَـــةٌ
وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيْبَةُ أَعْظَم
إنّ
كثيرًا من المحللين والخبراء السياسيين يرون أنّ «بوش» كان
جاهلاً بالأمر الواقع جهلاً مطبقًا ، وأنّه كان لايعرف حقيقةَ الحال فيما يتعلق بتفجيرات
11/9/2001م ، وأنه كان يجزم بأن القاعدة هي التي نفّذتها وأن اليهود لايد لهم فيها
، وأنه دُفِعَ إلى الحرب في أفغانستان والعراق دفعًا من قبل اليهود ، وأن اللوبي
الصهيوني في الإدارة الأمريكية هو الذي دفعه بقوة واستماتة في اتجاه الحرب .
وقائلُ ذلك المفكر الأمريكي «مايكل
كولينز بايبر» وهذا
الرأي هو الذي أيّده عدد من المفكرين وأساتذة التأريخ في أمريكا ؛ فيقول
البروفيسور «شرويدر» أستاذ
التأريخ بجامعة إلينوي: «بالتأكيد
تم دفع خطة غزو العراق بقوة على أيدي عدد من ذوي النفوذ المؤيدين لإسرائيل من
شاكلة الصقور الجدد داخل الإدارة وخارجها» وبنفس
الكلمات أيّد الرأي كل من «ريتشارد
بيرل» و «بول
وولفويتز» و «وليم
كريستول» وآخرون .
وأيّدت الرأيَ دراسةٌ جماعية مشتركة موثقة أصدرها خبيران أكاديميان بارزان في
جامعتي «هارفارد» و «شيكاغو» فقالت : «إن أمريكيين
موالين لإسرائيل هم الذين وَرَّطُوا أمريكا في مستنقع العراق ... إن سياسة
الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ، تخدم إسرائيل ولاتخدم المصالح الأمريكية
لاعلى المدى القريب ولا على المدى البعيد» . (رسالة
الإخوان ، العدد 464: الجمعة 12/5/1427هـ = 9/6/2006م) .
وعندما
يؤيّد كاتبُ هذه السطور الرأيَ بأن اليهود كانت لهم يد في تهيئة أمريكا وبالذات
بوش وزمرته المجرمة في إدارته لشنّ الحرب على العراق ، فإني لا أؤيّد أن بوش كان
جاهلاً بحقيقة الأمر؛ لأني أعلم في ضوء الوثائق والمستندات أنّ بوش بدوره ممن
يُصَنَّفُون ضمن «اللوبي الصهيوني» رغم أنه
معروف بأنّه مسيحيّ ؛ حيث أكدت المصادر أن بوش يؤمن بأن قيام دولة إسرائيل الكبرى
هو الذي يُعَجِّل نشأة المسيح عليه السلام الثانية وقيامه بدوره الجديد نحو
مسؤولياته النبويّة ، مما يمهد السبيل لسيادة المسيحيين في العالم وتغلّبهم
ووصايتهم على الأمم ؛ فأعتقد جازمًا أنه كان على علم بتفجيرات 9/11/2001م وإن لم
يكن على علم بها ، فإنّه علم بها فيما بعد عاجلاً ؛ ولكنه لم يتخذ إجراءً جديًّا
لمؤاخذة اللوبي اليهودي ، ثم إنه ظلّ يذعن لتوجيهاته اللاحقة فيما يتعلق بكل
الحماقات أو الويلات التي مارسها ضدّ الإسلام والمسلمين . كما أني أعتقد جازمًا أن
شن الحرب ضد كل من أفغانستان والعراق كان ضمن مخطط بوش من ذي قبل التفجيرات ؛
ولكنها – تفجيرات 9/11/ – استعجلته شنَّ الحرب ، وربّما كانت لتتأخر قليلاً أو
كثيرًا إذا لم تقع . على أنّ بوش كان بدوره مُتَعَجِّلاً بشأن ضرب العراق والإطاحة
بصدام حسين ؛ لأنّه كان مُتَطَلِّعًا للغاية إلى تصفية الحساب وأخذ الثأر من صدام
وعائلته كلها ؛ لأنها كانت قد حاولت اغتيال والده (جورج بوش الأب) أثناء زيارته
للعراق ؛ ولأن صدام حسين جعل من صوره – بوش الأب – مماسح أحذية في مداخل عدد من
الفنادق والمباني الحكومية الرئيسة شفاءً لأذاه النفسي الذي ناله منه عندما ألّب
العالم ضدّه وأرغمه على الخروج من الكويت التي كان قد احتلّها وأصرّ على ضمها إلى
العراق كمحافظة من محافظاته .
فكلُّ الخسائر التي تلحق أمريكا لاتهمّه – بوش –
فضلاً عن أن تهمه الخسائر الكثيرة الفظيعة التي يذوقها المسلمون والعرب في الأرواح
والممتلكات والمعدات ، والحرث والنسل، والحضارة والتأريخ ، وموارد الرزق ، ووسائل
الحياة . أَضِفْ إلى ذلك ماقاله بوش إثر التفجيرات من أنه رائح إلى خوض «حرب صليبية» . أي حرب
تمهد لقيام إسرائيل الكبرى فقيام دولة المسيحيين التي
يرعاها السيد المسيح عليه السلام. وذلك لا يتأتى كما يعتقد وكما تعتقد اليهود إلاّ
بتدمير العرب والمسلمين والدول التي تضمّهم في المناطق المتلاصقة وتؤيدهم في
المناطق المتباعدة ، وابتلاع الأراضي الإسلامية العربية ، وإقامة دولة إسرائيل
العظمى من النيل إلى الفرات .
يُضَافُ
إلى ذلك – لكي تتصل الحلقات وتتكامل السلسلة في شأن ما نحن بصدد إبانته من أن بوش
صليبي وصهيوني في وقت واحد وأنّه ألعوبة في أيدي اليهود عن رضا منه وطواعية ، وعن
وعي كامل وشعور لا مزيدَ عليه – أن بوش قد زعم ، حسبما نشرته وسائل الإعلام ، وقد
كتب عنه كاتبُ هذه السطور في هذه الزاوية ، في هذه الصفحات نفسها ، في العدد 11 من
السنة 29 الصادر في ذي القعدة 1426هـ الموافق ديسمبر 2005م ، بعنوان «ساعة مع
القديس بوش» .. زعم في
حزيران 2003م في مكتبه بالبيت الأبيض أمام مسؤولَين فلسطينيَّين كبيرَين هما :
محمود عباس ونبيل شعث أن الرب طلب منه – بوش – اجتياح كل من أفغانستان والعراق .
أتحرّك بموجب رسالة من الرب .. يقول لي الرب : جورج ! ضَعْ حدًّا للتسلط في العراق
وأفغانستان .. وهذا ما فعلتُه .. والآن مُجَدَّدًا أشعر برسالة الربّ : جورج !
وَفِّر للفلسطينيين دولةً ، وللإسرائيليين أمنًا ، وأَقِمِ السلامَ في الشرق
الأوسط .. وسأفعل ذلك».
إنّ
هذا الهذيانَ البوشيّ يؤكّد أن بوش عازم على إقامة دولة إسرائيل الكبرى ، وخادم
وفيّ لمصالحها ، وأنه صانع في سبيل ذلك كل ما يعنّ له ، من ظلم وبطش ، وإهلاك للحرث
والنسل، وإبادة لمن يراه يعترض سبيلَه هذا . وقد جعلته اليهود يعتقد جازمًا أن
المسلمين إرهابيّون ، ودينهم مصدر الإرهاب ، وتعاليمهم تلقِّن الإرهاب ، وقرآنهم
وحديثهم لاينتجان إلاّ الإرهابيين ، وأن نبيهم كان أوّلَ معلم للإرهاب. وأنّ
الإرهاب معناه معاداةُ اليهود الظَّلَمة والصليبيّين المتكبّرين .
من
هنا ، إنّه لم يدخل أفغانستان ليخرج منها عاجلاً وبالسهولة التي يظنّها بعض
السذّج، ولم يحتلّ العراقَ لكي يتخلّى عنه لصالح العراقيين دون أن يمكث فيه لمدة
طويلة يحقق خلالها جميع الأغراض الصليبية الصهيونية ، ويتشبّع تدميرًا له على جميع
الأصعدة ومن كل الوجوه ، ويقتّل من الإنسان العراقي العددَ الذي يراه قد أرضى
شهوته الصليبية ، وهواه الصهيوني ، ويقيم فيه حكومةً تظل عميلةً وفيّةً له وفاءَ
الكلب لسيده الذي ألقى إليه كسرةَ خبز بائتة عادت غير قابلة للأكل ، وعظمًا
منهوشًا منه كلُّ شيء عليه من اللحم الذي قد تَسَنَّهَ !، ويقوم فيه باتخاذ
ترتيبات ثابتة لنهب خيراته ، وسلب ثرواته ، والسيطرة على نفطه تسعيرًا وتسويقا ،
وتحديدًا للسقف الإنتاجي ، وتعيينًا للزبائن ، وما إلى ذلك من الأغراض الكثيرة
والأهداف الخبيثة التي أملاها عليه اليهود ، وحَلَتْ لديه هو .
وتجلّى من ذلك كلّه أن بوش لايعير للخسائر وزنًا ، حتى ولو لحقت
أمريكا نفسها ، إلاّ أن يأتي الوقت الذي يقوم فيه شعبه ضدّه ، ويقول له : رُحْ
وتخلّ عن هذا المنصب الرئاسي الذي دَنَّسْتَ عفّته بتصرفاتك الخرقاء التي تكاد
تطال بشرّها المستطير ليس أمريكا فقط ولكن العالم كله .
فكيف
به أن يقيم وزنًا للخسائر التي تلحق العراق والشعب العراقي ، ويمتد لهيبها للعالم
الإسلامي والمناطق كلها والدنيا بأسرها ؛ إلاّ يقوم العالم – إذا كان لديه ضمير
يقظ – ويقول له : اِنْتَهِ من اللعب بالنار التي تكاد تحرق بلادك وشعبك ودول
العالم وتترك الدنيا خرابًا يبابًا . انْتَه من الوحشية التي سئمناها ، والتعذيب
البشري الذي نكاد لانتحمله ، والتقتيل العشوائي للإنسان ، الذي لن نصبر عليه ونحن
نُوْصَفُ بالإنسان ، والإذلال غير المسبوق لأفراد بني آدم دونما ذنب إلاّ أنه طالب
بممارسة العدل والتعامل بالمساواة ؛ و انْتَهِ من ودوس كرامة الإنسان واغتصاب
حقوقه علنًا وجهرًا دونما ذنب إلاّ أنه طالب بحقوقه المشروعية .
ولكنّنا
نرى أن الإنسانية كادت تموت لدى معظم أفراد الجنس البشري في هذا العالم الذي يدّعي
التنوّر ، وأن الضمير فقد كل شيء اسمه الحياة . من هنا نرى العالم كأنه صامت صمتَ
المقبرة ، فلا نرى يحتج ضدّ هذا الكذوب المخادع المحتال الوقح الذي لايندم على هذا
المسلسل المملّ من فعلاته الشنعاء ، ولايقول له رجالٌ من ذوي الضمائر الحيّة اختفِ
؛ فلا نودّ أن نرى وجهك الكالح القبيح الذي تراكمت عليه اللعنات ، وعلته الظلمات .
(تحريرًا
في الساعة :309 من الليلة المتخللة بين الأربعاء والخميس
24-25 من جمادى الأولى 1427هـ الموافق 21-22/ يونيو 2006م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب
1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.